الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» **
وسبب ذلك أنه لما طالت إقامته بدمياط وهو ينتظر الفرج وقد أبطأ عليه وهو ينتقل من المكان الذي هو فيه إلى مكان آخر على شاطئ البحر وتشاغل بعمارة خان أنشأه هناك والحرس ملازمون له فلم يزل حتى ورد عليه صديق أفندي قاضي العسكر فكلمه بأن يتشفع له عند الباشا في انتقاله إلى طندتا ففعل وأجاب الباشا إلى ذلك. واستهل
في رابعه الحجاج المغاربة ووصل أيضًا مولاي إبراهيم ابن السلطان سليمان سلطان الغرب وسبب تأخرهم إلى هذا الوقت أنهم أتوا من طريق الشام وهلك الكثير من فقرائهم المشاة وأخبروا أنهم قضوا مناسكهم وحجوا وزاروا المدينة وأكرمهم الوهابية إكرامًا زائدًا وذهبوا ورجعوا من غير طريق العسكر. وفي عاشره حضر تامر كاشف ومحو بك وعبد الله وهم الذين كانوا عند طوسون باشا ثم حضروا في هذه الأيام باستدعاء الباشا وكان محو بك في مركب من مراكب الباشا الكبار التي أنشأها فانكسر على شعب وهلك من عسكره أشخاص ونجا هو بمن بقي معه وأخبروا عنه أنه كان أول من تقدم في البحر هو وحسين بك فقتل من عسكرهما الكثير من دون البقية الذين استعجلوا الفرار. وفيه خرجت أوراق الفرضة على نسق العام الأول عن أربع سنوات مال وفائظ ومضاف وبراني ورزق وأوسية واستقر طلبها في دفعة واحدة ويؤخذ من أصل حسابها الغلال من الأجران بحساب ثمانية ريال كل أردب ويجمع غلال كل إقليم في نواحي عينوها لتساق إلى الإسكندرية وتباع على الإفرنج فشحت الغلال وغلا سعرها مع كون الفلاح لا يقدر على رفع غلته المتحصلة له من زراعة أرضه التي غرم عليها المغارم بطول السنة بل تؤخذ منه قهرًا مع الإجحاف في الثمن والكيل بحيث يكال الأردب أردبًا ونصفًا ثم يلزمونه بأجرة حملها للمحل المعد لذلك ويلزم أيضًا بأجرة الكيال وعوائد المباشرين لذلك من الأعوان وخدمة الكشوفية وأجرة المعادي وبعض البلاد يطلق له الإذن بدفع المطلوب بالثمن والبعض النصف غلال والنصف الآخر دراهم حسب رسم المعلم غالي وأوامره وإذنه فإنه هو المرخص في الأمر والنهي فيبيع المأذون له غلته بأقصى قيمة بمرأى من المسكين الآخر الذي لم تسعده الأقدار وحضر الكثير من الفلاحين وازدحموا بباب المعلم غالي وتركوا بيادرهم وتعطلوا عن الدرس. وفي ليلة الاثنين خامس عشره ذهب الباشا إلى قصر شبرا وسافر تلك الليلة إلى ثغر الإسكندرية ورجع ابنه إبراهيم بك إلى الجهة القبلية وكذلك أحمد آغا لاظ لتحرير وقبض الأموال. وفيه ورد الخبر بأن العسكر بقبلي ذهبوا خلف الأمراء القبليين الفارين إلى خلف ابريم وضيقوا عليهم الطرق وماتت خيولهم وجمالهم وتفرق عنهم خدمهم واضمحل حالهم وحضر عدة من مماليكهم وأجنادهم إلى ناحية أسوان بأمان من الأتراك فقبضوا عليهم وقتلوهم عن آخرهم وفعلوا قبل ذلك بغيرهم كذلك. وفي أواخره سافر عدة من عسكر المغاربة إلى الينبع ووصل جملة كبيرة من عسكر الأروام إلى الإسكندرية فصرف عليهم الباشا علائف وحضروا إلى مصر وانتظموا في سلك من بها ويعين منهم للسفر من يعين. وفيه وقعت حادثة بخط الجامع الأزهر وهو أنه من مدة سابقة من قبل العام الماضي كان يقع بالخطة ونواحيها من الدور والحوانيت سرقات وضياع أمتعة وتكرر ذلك حتى ضج الناس وكثر لغطهم وضاع تخمينهم فمن قائل أنه مسترعيات يدخلون في نواحي السور ويتفرقون في الخطة ويفعلون ما يفعلون ومنهم من يقول أن ذلك فعل طائفة من العسكر الذين يقال لهم الحيطة في بلادهم إلى غير ذلك ثم في تاريخه سرق من بيت امرأة رومية صندوق ومتاع فاتهمت أشخاصًا من العميان المجاورين بزاويتهم تجاه مدرسة الجوهرية الملاصقة للأزهر فقبض عليهم الآغا وقررهم فأنكروا وقالوا لسنا سارقين وإنما سمعنا فلانًا سموه وهو محمد ابن أبي القاسم الدرقاوي المغربي المنفصل عن مشيخة رواق المغاربة ومعه أخوته وآخرون ونعرفه بصوته وهم يتذاكرون في ذلك ونحن نسمعهم فلما تحققوا ذلك وشاع بين الناس والأشياخ ذهب بعضهم إلى أبي القاسم وخاطبوه وكلموه سرًا وخوفوه من العاقبة وكان المذكور جعل نفسه مريضًا ومنقطعًا في داره فغالطهم فقالوا له نحن قصدنا بخطابك التستر على أهل الخرقة المنتسبين إلى الأزهر في العمل بالشريعة وأخذ العلم أو ما علمت ما قد جرى في العام السابق من حادثة الزغل وغير ذلك فلم يزالوا به حتى وعدهم أنه يتكلم مع أولاده ويفحصون على ذلك بنباهتهم ونجابتهم. وفي اليوم الثالث وقيل الثاني أرسل أبو القاسم المذكور فأحضر السيد أحمد الذي يقال له جندي المطبخ وابن أخيه وهما اللذان يتعاطيان الحسبة والأحكام بخط الأزهر ويتكلمان على الباعة والخضرية والجزارين الكائنين بالخطة فلما حضرا عنده عاهدهما وحلفهما بأن يسترا عليه وعلى أولاده ولا يفضحاهم ويبعدا عنهم هذه القضية وأخبرهما بأن ولده لم يزل يتفحص بفطانته حتى عرف السارق ووجد بعض الأمتعة ثم فتح خزانة بمجلسه وأخرج منها أمتعة فسألوه عن الصندوق فقال هو باق عند من هو عنده ولا يمكن إحضاره في النهار فإذا كان آخر الليل انتظروا ولدى محمدًا هذا عند جامع الفاكهاني بالعقادين الرومي وهو يأتيكم بالصندوق مع سارقه فاقبضوا عليه واتركوا أولادي ولا تذكروهم ولا تتعرضوا لهم فقالوا له كذلك وحضر الجندي وابن أخيه في الوقت الذي وعدهم به وصحبتهما أشخاص من أتباع الشرطة ووقفوا في انتظاره عند جامع الفاكهاني فحضر إليهم وصحبته شخص صرماتي فقالا لهم مكانكم حتى نأتيكم ثم طلعا إلى ربع بعطفة الأنماطيين ورجعا في الحال بالصندوق حامله الصرماتي على رأسه فقبضوا على ذلك الصرماتي وأخذوه بالصندوق إلى بيت الآغا فعاقبوه بالضرب وهو يقول أنا لست وحدي وشركائي ابن أبي القاسم وأخواه وآخر يسمى شلاطة وابن عبد الرحيم الجميع خمسة أشخاص فذهب الآغا وأخبر كتخدا بك فأمره بطلب أولاد أبي القاسم فأرسل إليه ورقة بطلبهم فأجابه بأن أولاده حاضرون عنده بالأزهر من طلبة العلم وليسوا بسارقين فبالاختصار أخذهم الآغا أحضر ذلك الصرماتي معهم لأجل المحاققة فلم يزل يذكر لابن أبي القاسم ما كانوا عليه سرحاتهم القديمة والجديدة ويقول له أما كنا كذا وكذا وفعلنا ما هو كذا في ليلة كذا واقتسمنا ما هو كذا وكذا ويقيم عليه أدلة وقرائن وأمارات ويقول له أنت رئيسنا وكبيرنا في ذلك كله ولا نمشي إلى ناحية ولا سرحة إلا بإشارتك فعند ذلك لم يسع ابن أبي القاسم الإنكار وأقر واعترف هو واخوته وحبسوا سوية وأما شلاطة ورفيقه فإنهما تغيبا وهربا واختفيا وشاعت القضية في المدينة وكثر القال والقيل في الأزهر ونواحيه وتذكروا قضية الدراهم الزغل التي ظهرت قبل تاريخه وتذكروا أقوالًا أخرى واجتمع كثير من الذين سرق لهم فمنهم رجل يبيع السمن أخذ من مخزنة عدة مواعين سمن وصينية الفطاطري التي يعمل عليها الكنافة وأمتعة وفروش وجدت في ثلاثة أماكن وخاتم ياقوت ذكروا أنه بيع بجملة دنانير وعقد لؤلؤ وغير ذلك واستمروا أيامًا والناس يذهبون إلى الآغا ويذكرون ما سرق لهم ويسألهم فيقرون بأشياء دون أشياء ويذكرون ضياع أشياء فصرفوا فيها وباعوها وأكلوا بثمنها ثم اتفق الحال على المرافعة في المحكمة الكبيرة فذهبوا بالجميع واجتمع العالم الكثير من الناس وأصحاب السرقات وغيرهم نساء ورجالًا وادعوا على هؤلاء الأشخاص المقبوض عليهم فأحضروا بعض ما ادعوا به عليهم وقالوا أخذنا ولم يقولوا سرقنا وبرًا محمد بن أبي القاسم أخويه وقال أنهما لم يكونا معنا في شيء من هذا وحصل الاختلاف في ثبوت القطع بلفظ أخذنا وقد حضرت دعوى أخرى مثل هذه على رجل صباغ ثم أن القاضي كتب أعلامًا للكتخدا بك بصورة الواقع وفوض الأمر إليه فأمر بهم إلى بولاق وأنزلوهم عند القبطان وصحبتهم أبوهم أبو القاسم فأقاموا أيامًا ثم إن كتخدا بك أمر بقطع أيدي الثلاثة وهم محمد بن أبي القاسم الدرقاوي ورفيقة الصرماني والصباغ الذي ثبتت عليه السرقة في الحادثة الأخرى فقطعوا أيدي الثلاثة في بيت القبطان ثم أنزلوهم في مركب وصحبتهم أبوهم أبو القاسم وولداه الآخران اللذان لم تقطع أيديهما وسفروهم إلى الإسكندرية وذلك في منتصف شهر جمادى الأولى من السنة. واستهل شهر جمادى الثانية بيوم الخميس سنة 1227 فيه حضر الثلاثة أشخاص المقطوعين الأيدي وذلك أنهم لما وصلوا إلى الإسكندرية وكان الباشا هناك تشفع فيهم المتشفعون عنده قائلين أنه جرى عليهم الحد بالقطع فلا حاجة إلى نفيهم وتغريبهم فأمر بنفي أبي القاسم وولديه الصغيرين إلى أبي قير ورجع ولده الآخر مع رفيقه الصرماتي والصباغ إلى مصر فحضروا إليها وذهبوا إلى دورهم وأما ابن أبي القاسم فذهب إلى داره وسلم على والدته ونزل إلى السوق يطوف على أصحابه ويسلم عليهم وهو يتألم مما حصل في نفسه ولا يظهر ذلك لشدة وقاحته وجمودة صدغه وغلاظة وجهه بل يظهر التجلد وعدم المبالاة بما وقع له من النكل وكسوف البال ومر في السوق والأطفال حوله وخلفه وأمامه يتفرجون عليه ويقولون انظروا الحرامي وهو لا يبالي بهم ولا يلتفت إليهم حتى قيل أنه ذهب إلى مسجد خرب بالباطنية ودعا إليه غلامًا يهواه بناحية الدرب الأحمر فجلس معه حصة من النهار ثم فارقه وذهب إلى داره واشتد به الألم لأن الذي باشر قطع يده لم يحسن القطع فمات في اليوم الثالث. وفي هذا الشهر وما قبله وردت عساكر كثيرة من الأتراك وعينوا للسفر وخرجوا إلى مخيم العرضي خارج بأبي النصر والفتوح فكانوا يخرجون مساء ويدخلون في الصباح ويقع منهم ما يقع من أخذ الدواب وخطف بعض النساء والأولاد كعادتهم. وفي ليلة الخميس ثاني عشرينه حضر الباشا من الإسكندرية ليلًا وصحبته حسن باشا إلى القصر بشبرا وطلع في صبحها إلى القلعة وضربوا لقدومه مدافع من الأبراج فكان مدة غيبته في هذه المدة شهرين وسبعة أيام واجتهد فيها في عمارة سور المدينة وأبراجها وحصنها تحصينًا عظيمًا وجعل بها جبانات وبارودًا ومدافع وآلات حرب ولم تزل العمارة مستمرة بعد خروجه منها على الرسم الذي رسمه لهم وأخذ جميع ما ورد عليه من مراكب التجار من البضائع على ذمته ثم باعه للمتسببين بما أحب من الثمن وورد من ناحية بلاد الإفرنج كثير من البن الإفرنجي وحبه أخضر وجرمه أكبر من حب البن اليمني الذي يأتي إلى مصر في مراكب الحجاز أخذه في جملة ما أخذ في معاوضة الغلال ورماه على باعة البن بمصر بثلاثة وعشرين فرانسة القنطار والتجار يبيعونه بالزيادة ويخلطونه مع البن اليمني وفي ابتداء وروده كان يباع رخيصًا لأنه دون البن وفيه وصل مرسوم صحبة قابجي من الديار الرومية مضمونه وكالة دار السعادة باسم كتخدا بك وعزل عثمان آغا الوكيل تابع سعيد آغا فعمل الباشا ديوانًا يوم الأحد وقرئ المرسوم وخلع على كتخدا بك خلعة الوكالة وخلعة أخرى باستمراره في الكتخدائية على عادته وركب في مركب إلى داره فلما استقر في ذلك أرسل في ثاني يوم فأحضر الكتبة من بيت عثمان آغا وأمرهم بعمل حسابه من ابتداء سنة 1221 لغاية تاريخه فشرعوا في ذلك وأصبح عثمان آغا المذكور مسلوب النعمة بالنسبة لما كان فيه ويطالب بما دخل في طرفه وانتزعت منه بلاد الوكالة وتعلقات الحرمين وأوقافهما وغير ذلك. وفي يوم الخميس غايته وصل صالح قوج ومحو بك وسليمان آغا وخليل آغا من ناحية الينبع على طريق القصير من الجهة القبلية وذهبوا إلى دورهم. واستهل شهر رجب بيوم الجمعة سنة 1227 في ثالثه طلع الجماعة الواصلون إلى القلعة وسلموا على الباشا وخاطره منحرف منهم ومتكدر عليهم لأنه طلبهم للحضور مجردين بدون عساكرهم ليتشاور معهم فحضروا بجملة عساكرهم وقد كان ثبت عنده أنهم هم الذين كانوا سببًا للهزيمة لمخالفتهم على ابنه واضطرب رأيهم وتقصيرهم في نفقات العساكر ومبادرتهم للهرب والهزيمة عند اللقاء ونزولهم بخاصتهم إلى المراكب وما حصل بينهم وبين ابنه طوسون باشا من المكالمات فلم يزالوا مقيمين في بيوتهم ببولاق ومصر والأمر بينهم وبين الباشا على السكوت نحو العشرين يومًا وأمرهم في ارتجاج واضطراب وعساكرهم مجتمعة حولهم ثم إن الباشا أمر بقطع خرجهم وعلائفهم فعند ذلك تحققوا منه المقاطعة. وفي رابع عشرينه أرسل إليهم علائفهم المنكسرة وقدرها ألف وثمانمائة كيس جميعها ريالات فرانسة وأمر بحملها على الجمال ووجه إليهم بالسفر فشرعوا في بيع بلادهم وتعلقاتهم وضاق ذرعهم وندر طبعهم إلى الغاية وعسر عليهم مفارقة أرض مصر وما صاروا فيه من التنعم والرفاهية والسيادة والأمارة والتصرف في الأحكام والمساكن العظيمة والزوجات السراري والخدم والعبيد والجواري فإن لأقل منهم له البيتان والثلاثة من بيوت الأمراء ونسائهم اللاتي قتلت أزواجهن على أيديهم وظنوا أن البلاد صفت لهم حتى أن النساء المترفهات ذوات البيوت والإيرادات والالتزامات صرن يعرضن أنفسهن عليهم ليحتمين فيهم بعد أن كن يعفنهم ويأنفن من ذكرهم فضلًا عن قربهم. وفيه ورد آغا قابجي من دار السلطنة وعلى يده مرسوم بالبشارة بمولود ولد للسلطان فعملوا ديوانًا يوم الأحد رابع عشرينه وطلع الآغا المذكور في موكب إلى القلعة وقرئ ذلك المرسوم وصحبته الأمراء وضربوا شنكًا ومدافع واستمروا على ذلك ثلاثة أيام في وقت كل أذان كأيام الأعياد. وفي يوم الثلاثاء مات أحمد بك وهو من عظماء الأرنؤد وأركانهم وكان عندما بلغه قطع خرج المذكورين أرسل إلى الباشا يقول له اقطع خرجي وأعطني علوفة عساكري وأسافر مع إخواني فمنعه الباشا وأظهر الرأفة به فتغير طبعه وزاد قهره وتمرض جسمه فأرسل إليه الباشا حكيمه فسقاه شربه وفصده فمات من ليلته فخرجوا من جنازته من بولاق ودفنوه بالقرافة الصغرى وخرج أمامه صالح آغا وسليمان آغا وطاهر آغا وهم راكبون أمامه وطوائف الأرنؤد عدد كبير مشاة حوله. واستهل شهر شعبان بيوم الأحد سنة 1227 في رابعه يوم الأربعاء الموافق لسابع مسرى القبطي أوفي النيل المبارك أدرعه ونزل الباشا في صبح يوم الخميس في جم غفير وعدة وافرة من العساكر وكسر السد بحضرته وحضرة القاضي وجرى الماء في الخليج ومنع المراكب من دخولها الخليج. وفي منتصفه سافر سليمان آغا ومحو بك بعد أن قضوا أشغالهم وباعوا تعلقاتهم وقبضوا علائفهم. وفي يوم الخميس تاسع عشره سافر صالح آغا قوج وصحبته نحو المائتين ممن اختارهم من عساكره الأرنؤدية وتفرق عنه الباقون وانضموا إلى حسن باشا وأخيه عابدين بك وغيرهما. وفي يوم الجمعة برزت خيام الباشا خارج باب النصر وعزم على الخروج والسفر بنفسه إلى الحجاز وقد اطمأن خاطره عندما سافر الجماعة المذكورون لأنه لما قطع خرجهم ورواتبهم وأمرهم بالسفر جمعوا عساكرهم إليهم وخيولهم وأخذوا الدور والبيوت ببولاق وسكنوها وصارت لهم وسفاشيته وغيرهم بالملازمة والمبيت بالقلعة وغير ذلك. وفي يوم السبت حادي عشرينه اجتمعت العساكر وانجر الموكب من باكر النهار فكان أولهم طوائف الدلاة ثم العساكر وأكابرهم وحسن باشا وأخوه عابدين بك وهو ماش على أقدامه في طوائفه أمام الباشا ثم الباشا وكتخدا بك وأغواتهم الصقلية وطوائفهم وخلفهم الطبلخانات وعند ركوبه من القلعة ضربوا عدة مدافع فكان مدة مرورهم نحو خمس ساعات وجروا أما الموكب ثمانية عشر مدفعًا وثلاث قنابر. في رابع عشرينه وردت هجانة مبشرون باستيلاء الأتراك على عقبة الصفراء والجديدة من غير حرب بل بالمخادعة والمصالحة مع العرب وتدبير شريف مكة ولم يجدوا بها أحدًا من الوهابيين فعندما وصلت هذه البشارة ضربوا مدافع كثيرة تلك الليلة من القلعة وظهر فيهم الفرح والسرور. وفي تلك الليلة حضر أحمد آغا لاظ حاكم قنا ونواحيها وكان من خبره أنه لما وصلت إليه الجماعة الذين سافروا في الشهر الماضي وهم صالح آغا وسليمان آغا ومحو بك ومن معهم واجتمعوا على المذكور وبثوا شكواهم وأسروا نجواهم وأضمروا في نفوسهم أنهم إذا وصلوا إلى مصر ووجدوا الباشا منحرفًا منهم أو أمرهم بالخروج والعود إلى الحجاز امتنعوا عليه وخالفوه وإن قطع خرجهم وأعطاهم علائفهم بارزوه ونابذوه وحاربوه واتفق أحمد آغا المذكور معهم على ذلك وأنه متى حصل هذا المذكور أرسلوا إليه فيأتيهم على الفور بعسكره وجنده وينضم إليه الكثير من المقيمين بمصر من طوائف الأرنؤد كعابدين بك وحسن باشا وغيرهم بعساكرهم لاتحاد الجنسية فلما حصل وصول المذكورين وقطع الباشا راتبهم وخرجهم وأعطاهم علائفهم المنكسرة وأمرهم بالسفر أرسلوا لأحمد آغا لاظ المذكور بالحضور بحكم اتفاقهم معه فتقاعس وأحب أن يبدي لنفسه عذرًا في شقاقه مع الباشا فأرسل إليه مكتوبًا يقول فيه إن كنت قطعت خرج إخواني وعزمت على سفرهم من مصر وإخراجهم منها فاقطع أيضًا خرجي ودعني أسافر معهم فأخفى الباشا تلك المكاتبة وأخر عود الرسول ويقال له الخجا لعلمه بما ضمروه فيما بينهم حتى أعطى للمذكورين علائفهم على الكامل ودفع لصالح آغا كل عامًا طلبه واده حتى أنه كان أنشأ مسجدًا بساحل بولاق بجوار داره وبنى له منارة ظريفة واشترى له عقارًا وأمكنة وقفها على مصالح ذلك المسجد وشعائره فدفع له الباشا جميع ما صرفه عليه وثمن العقار وغيره ولم يترك لهم مطالبة يحتجون بها في التأخير وأعطى الكثير من رواتبهم لحسن باشا وعابدين بك أخيه فمالوا عنهم وفارقهم الكثير من عساكرهم وانضموا إلى أجناسهم المقيمين عند حسن باشا وأخيه فرتبوا لهم العلائف معهم وأكثرهم مستوطنون ومتزوجون بل ومتناسلون ويصعب عليهم مفارقة الوطن وما صاروا فيه من التنعم ولا يهون بمطلق الحال استبدال النعيم بالجحيم ويعملون عاقبة ما هم صائرون إليه لأنه فيما بلغنا أنه من سافر منهم إلى بلاده قبض عليه حاكمها وأخذ منه ما معه من المال الذي جمعه من مصر وما معه من المتاع وأودعه السجن ويفرض عليه قدرًا فلا يطلقه حتى يقوم بدفعه على ظن أن يكون أودع شيئًا عند غيره فيشتري نفسه به أو يشتريه أقاربه أو يرسل إلى مصر مراسلة لعشيرته وأقاربه فتأخذهم عليه الغيرة فيرسلون له ما فرض عليه ويفتدونه وإلا فيموت بالسجن أو يطلق مجرد أو يرجع إلى حالته التي كان عليها في السابق من الخدم الممتهنة والاحتطاب من الجبل والتكسب بالصنائع الدنيئة ببيع الأسقاط والكروش والمؤاجرة في حمل الأمتعة ونحو ذلك فيختارون الإقامة ويتركون مخاديمهم خصوصًا والخسة من طباعهم هذا والباشا يستحث صالح آغا ورفقاءه في الرحيل حيث لم يبق له عذر في التأخير فعندما نزلوا في المراكب وانحدروا في النيل أحضر الباشا الخجا المذكور وهو عبارة عن الأفندي المخصوص بكتابة سره وإيراده ومصرفه وأعطاه جواب الرسالة مضمونها تطمينه وتأمينه ويذكر له أنه صعب عليه وتأثر من طلبه المقاطعة وطلبه المفارقة وعدد له أسباب انحرافه عن صالح آغا ورفقاءه وما استوجبوا به ما حصل لهم من الإخراج والإبعاد وأما هو فلم يحصل منه ما يوجب ذلك وأنه باق على ما يعهده من المودة والمحبة فإن كان ولا بد من قصده وسفره فهو لا يمنعه من ذلك فيأتي بجميع أتباعه ويتوجه بالسلامة أينما شاء وإلا بأن صرف عن نفسه هذا الهاجس فليحضر في القنجة في قلة ويترك وطاقه وأتباعه ليواجهه ويتحدث معه في مشورته وانتظام أموره التي لا يتحملها هذا الكتاب ويعود إلى محل ولايته وحكمه مكرمًا فراج عليه ذلك التمويه وركن إلى زخرف القول وظن أن الباشا لا يصله بمكروه ولا يواجهه بقبيح من القول فضلًا عن الفعل لأنه كان عظيمًا فيهم ومن الرؤساء المعدودين صاحب همة وشهامة وإقدام جسورًا في الحروب والخطوب وهو الذي مهد البلاد القبلية وأخلاها من الأجناد المصريين فلما خلت الديار منهم واستقر هو بقنا وقوص وهو مطلق آغا قوج بالأسيوطية ثم إن الباشا وجه صالح آغا إلى الحجاز وقلد ابنه إبراهيم باشا ولاية الصعيد فكان يناقض عليه أحمد آغا المذكور في أفعاله ويمانعه التعدي على أطيان الناس وأرزاق الأوقاف والمساجد ويحل عقد إبراماته فيرسل إلى أبيه بالأخبار فيحقد ذلك في نفسه ويظهر خلافه ويتغافل وأحمد آغا المذكور على جليته وخوص نيته فلما وصلته الرسالة اعتقد صدقه وبادر بالحضور في قلة من أتباعه حسب إشارته وطلع إلى القلعة ليلة السبت وهي ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان فعبر عند الباشا وسلم عليه فحادثه وعاتبه ونقم عليه أشياء وهو يجاوبه ويرادده حتى ظهر عليه الغيظ فقام كتخدا بك وإبراهيم آغا وخرجا من عند الباشا ودخلا إلى مجلس إبراهيم آغا وجلسوا يتحدثون وصار الكتخدا وإبراهيم آغا يلطفان معه القول وأشاروا عليه بأن يستمر معهما إلى وقت السحور وسكون حدة الباشا فيدخلون إليه ويتسحرون معه فأجابهم إلى رأيهم وأمر من كان بصحبته من العسكر وهم نحو الخمسين بالنزول إلى محلهم فامتنع كبيرهم وقال لا نذهب ونتركك وحيدًا فقال الكتخدا وما الذي يصيبه وهو همشري ومن بلدي وإن أصيب بشيء كنت أنا قبله فعند ذلك نزلوا وفارقوه وبقي عنده من لا يستغني عنه في الخدمة فعند ذلك أتاه من يستدعيه إلى الباشا فلما كان خارج المجلس قبضوا عليه وأخذوا سيفه وسلاحه ونزلوا له إلى تحت سلم الركوب وأشعل الضوى المشعل وأداروا كتافه ورموا رقبته ورفعوه في الحال وغسلوه وكنفوه ودفنوه وذلك في سادس ساعة من الليل وأصبح الخبر شائعًا في المدينة وأحضر الباشا الخجا وطولب بالتعريف عن أمواله وودائعه وعين في الحال باشجاويش ليذهب إلى قنا ويختم على داره ما له من الغلال والأموال وطلبت الودائع ممن هي عنده التي استدلوا عليها بالأوراق فظهر له ودائع في عدة أماكن وصناديق مال وغير ذلك ولم يتعرض لمنزله ولا لحريمه. واستهل شهر شوال بيوم الأربعاء سنة 1227 في رابعه يوم السبت قدم قابجي من إسلامبول وعلى يده مقرر للباشا بولاية مصر على السنة الجديدة ومعه فروة لخصوص الباشا فلما وصل إلى بولاق فنزل كتخدا بك لملاقاته فركب في موكب جليل وخلفه النوبة التركية وشق من وسط البلد وصعد إلى القلعة وحضر الأشياخ وأكابر دولتهم وقرئ المرسوم بحضرة الجميع فلما انقضى الديوان ضربوا عدة مدافع من القلعة. وفيه ألبس شيخ السادات ابن أخيه سيدي أحمد خلعة وتاجًا وجعله وكيلًا عنه في نقابة الأشراف وأركبه فرسًا بعباءة ومشى أمامه أيضًا الجاويشية المختصين بنقيب الأشراف وأمره بأن يذهب إلى الباشا ويقابله ليخلع عليه وأرسل في صحبته محمد أفندي فقال مبارك وأشار إليه محمد أفندي بأن يخلع عليه فروة فقال الباشا أن عمه جعله نائبًا عنه ووكيلًا فليس له عندي تلبيس لأنه لم يتقلدها بالأصالة من عندي فقام ونزل من غير شيء إلى داره بجوار المشهد الحسيني. وفي يوم الخميس ثالث عشرينه سافر مصطفى بك دالي باشا بجميع الدلاة وغيرهم من العسكر إلى الحجاز وحصل للناس في هذا الشهر عدة كربات منها وهو أعظمها عدم وجود الماء العذب وذلك في وفت النيل وجريان الخليج من وسط المدينة حتى كاد الناس يموتون عطشًا وذلك بسبب أخذهم الحمير للسخرة والرجال لخدمة العسكر المسافرين وغلو ثمن القرب التي تشترى لنقل الماء فإن الباشا أخذ جميع القرب الموجودة بالوكالة عند الخليلية وما كان بغيرها أيضًا حتى أرسل إلى القدس والخليل فأحضر جميع ما كان بهما وبلغت الغاية في غلو الأثمان حتى بيعت القربة والواحدة التي كان ثمنها مائة وخمسين نصفًا بألف وخمسمائة نصف ويأخذون أيضًا الجمال التي تنقل الماء بالروايا إلى الأسبلة والصهاريج وغيرهما من الخليج فامتنع الجميع عن السراح والخروج واحتاج العسكر أيضًا إلى الماء فوقفوا بالطرق يرصدون مرور السقائين أو غيرهم من الفقراء والذين ينقلون الماء بالبلاليص والجرار على رؤوسهم فيوجد على كل موردة من الموارد عدة من العسكر وهم واقفون بالأسلحة ينتظرون من يستقي من السقائين أو غيرهم فكان الخدم والنساء والفقراء والبنات والصبيان ينقلون بطول النهار والليل بالأوعية الكبيرة والصغيرة على رؤوسهم بمقدار ما يكفيهم للشرب وبيعت القربة الواحدة بخمسة عشر نصف فضة وأكثر وشح وجود اللحم وغلا في الثمن زيادة على سعره المستمر حتى بيع بثمانية عشر نصف فضة كل رطل هذا إن وجد والجاموسي الجفيط بأربعة عشر وطلبوا للسفر طائفة من القبانية والخبازين ومن أرباب الصنائع والحرف وشددوا عليهم الطلب في أواخر الشهر فتغيبوا وهربوا فسمرت بيوتهم وحوانيتهم وكذلك الخبازون والفرانون بالطوابين والأفران حتى عدم الخبز من الأسواق ولم يجد أصحاب البيوت فرنًا يخبزون فيه عجينهم فمن الناس القادرين على الوقود من يخبز عجينه في داره أو عند جاره الذي يكون عنده فرن أو عند بعض الفرانين الذي تكون فرنه بداخل عطفة مستورة خفية أو ليلًا من الخوف من العسس والمرصدين لهم وكذلك عدم وجود التبن بسبب رصد العسكر في الطرق لأخذ ما يأتي به الفلاحون من الأرياف فيخطفونه قبل وصوله إلى المدينة وحصل بسبب هذه الأحوال المذكورة شبكات ومشاجرات وضرب وقتل وتجريح أبدان ولولا خوف العسكر من الباشا وشدته عليهم حتى القتل إذا وصلت الشكوى إليه لحصل أكثر من ذلك.
|